التاريخ يتكلم

بغض النظر عن تقييم الأداء السياسي للأنظمة العربية في العقود الأخيرة، وخاصة فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر الجهد الذي قامت به الجيوش العربية على الصعيد الميداني في ظل التفاوت الكبير في الإمكانيات بين الجانب الاسرائيلي الذي تلقى دعما صريحا ومبطنا من الدول الغربية، بينما كانت الدول العربية حديثة الاستقلال تعاني العديد من المشكلات التي تحول دون قدرتها على الانفراد بإرادتها السياسة، ومن أهم هذه المعيقات كانت مشكلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولعل وجود اسرائيل في حد ذاته، كان استراتيجية جديدة من الدول الاستعمارية لتبسط سيطرتها غير المباشرة على المنطقة بصورة متواصلة ومستمرة، حيث أن الدول الاستعمارية التقليدية، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن لتضحي بالمنطقة العربية على الإطلاق، نظرا لموقعها الاستراتيجي الذي يكفل ميزة نسبية كبيرة في أي صراع عالمي، وسيطرتها على طرق التجارة التقليدية، وكذلك لوفرة الثروات النفطية التي اكتشفت في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي أدى إلى حصول العصابات الصهيونية قبل سنة 1948 على الكثير من الدعم المادي والعسكري، لتكون بمثابة قمة جبل الجليد، بينما تختفي تحت الماء مصالح ضخمة وكونية للدول الغربية التي دعمت إقامة دولة اسرائيل في عكس اتجاه إرادة الاستقلال العربية. الجيش العراقي كان طرفا أساسيا في الحروب التي خاضتها الدول العربية ضد اسرائيل منذ 1948، ولا يمكن التطرق لدور الجيش العراقي بمعزل عن العديد من العواصم العربية، وفي مقدمتها عمان، فالجبهة الأردنية كانت المجال الذي تمكن العراقيون من المشاركة في الحروب العربية من خلاله، كما أن الرؤى والأفكار الأردنية والعراقية كانت تشكل محورا خاصا في مسألة المواجهة مع اسرائيل، في مقابل المحور المصري – السوري، ويكشف الكتاب الذي يقدمه الفريق المتقاعد الدكتور سامي الخفاجي جملة من الأسرار المهمة والتي يمكن أن تعيد ترتيب المشهد العام في مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث يكشف أولا بعضا من خفايا حرب فلسطين 1948 وطبيعة التفوق الاسرائيلي العسكري في العدد والعتاد، والدعم الذي حصلت عليه العصابات الاسرائيلية وخاصة في المجال الجوي الأمر الذي مكنها من الحصول على ميزة كبيرة في ميادين المواجهة، ويبين أيضا ظروف القتال الميدانية الصعبة على الجيوش العربية في الحرب التي انتهت بتأسيس دولة اسرائيل على معظم التراب الفلسطيني. يعيد الكتاب ترتيب المشهد العام في مرحلة ما بين حربي 1948 و1967، ويركز على الموقف الأردني الذي التزم بوحدة الصف العربي في مرحلة حرجة وحساسة من التاريخ، فيبين الكتاب موقف الملك الراحل الحسين وجرأته في توقيع اتفاقية للدفاع المشترك مع الجانب المصري قبل العدوان الاسرائيلي بأيام، ووضعه القيادة المصرية في صورة التهديدات الجدية من قبل اسرائيل، ومطالبته باتخاذ التدابير اللازمة في الوقت المناسب، إلا أن القاهرة أجابت بأنها مستعدة للمواجهة، وأنها ستقود العمليات بمفردها، وهو الأمر الذي ثبتت عدم صحته بعد أقل من أسبوع عندما بدأ الجيش الاسرائيلي بالهجوم على سيناء ومرتفعات الجولان، ولاحقا الضفة الغربية، بعد أن قام الأردن بأداء دوره بمبادءة الاسرائيليين بالعمل العسكري من أجل التخفيف عن الجبهات العربية الأخرى، ويكشف الكتاب جملة من الأسرار الأخرى، ومن أهمها رفض الجيش السوري المساهمة البرية من الجيش العراقي في الدفاع عن الجبهة السورية واكتفاءه بطلب المساندة الجوية من العراقيين!! كما ويتطرق الكتاب لمعركة الكرامة بوصفها نقطة تحول رئيسية في الصراع العربي – الإسرائيلي حيث كانت المرة الأولى التي يفرض فيها الجانب العربي شروطه على اسرائيل عندما رفض الملك الحسين وقف اطلاق النار قبل انسحاب آخر جندي اسرائيلي من الأراضي الأردنية. ويتتبع الفريق الخفاجي في عرض متوازن يشتمل على البعد الجيوسياسي والتأريخ العسكري مشاركة العراق الكبيرة في حرب تشرين 1973، ومساهمته على مختلف الجبهات العربية، وكذلك الحرب العراقية – الإيرانية ضمن وعي كبير بأبعادها العالمية والإقليمية، وأهدافها غير المعلنة، كما ويقدم الكتاب نقدا للغزو العراقي للكويت، ويبين أن الجيش العراقي كان معزولا عن عملية اتخاذ القرار بالتدخل في الجارة الكويت بعد أن تمت إزاحة مجموعة من قيادته لمصلحة بعض القيادات العسكرية في حزب البعث التي قامت بقراءة الموقف الدولي في فترة نهاية الحرب الباردة بصورة مغلوطة وانساقت وراء الطموحات الإقليمية للقيادة السياسية، ويقدم الكتاب مفاجآت من العيار الثقيل، ومن أهمها أن مجموعة من القيادات العسكرية العراقية علمت بالغزو العراقي للكويت من وسائل الإعلام، ولم تكن ضمن المطبخ السياسي الذي اتخذ القرار الكارثي بغزو الجارة العربية، وهو الأمر الذي يمكن مراجعته من خلال العديد من الوقائع التاريخية التي لم يتعرض لها الكتاب تفصيلا، حيث كان تركيز مؤلفه منصبا على رسم الصورة العامة للأوضاع العربية وتأثيراتها على الجيش العراقي وقيادته، والتحليل الاستراتيجي للمتغيرات العالمية والعربية. مؤلف الكتاب هو أحد القادة العسكريين المحترفين السابقين في الجيش العراقي، حيث استمرت خدمته العسكرية لأكثر من أربعين عاما ختمها بتوليه منصب الملحق العسكري العراقي في اليابان حتى سنة 2007، كما أن الفريق الخفاجي من الباحثين المتخصصين في القضايا الاستراتيجية وهو حاصل على شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية من الجامعة الأردنية، ويعمل أستاذا مشاركا في العلوم السياسية بجامعة لاهاي الهولندية، إلا أن الملمح المهم في الكتاب هو تركيزه على العرض المتوازن البعيد عن الشخصنة والرؤى الذاتية، وهو الأمر الذي تفتقد له العديد من الكتب التي يضطلع بتأليفها بعض رجال الدولة أو القادة العسكريين الذين كانوا في مواقع القرار في ظروف تاريخية معينة، حيث عادة ما تطغى آراؤهم وتصوراتهم الشخصية على الغايات البحثية والعلمية التي يمكن أن تشكل إضافة إلى عملية التأريخ المهمة والضرورية من أجل تفهم طبيعة الظروف التي تعيشها المنطقة العربية بناء على معطيات المراحل السابقة ونتاجاتها.